أبواب الخير

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد ورد عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه، عن النَّبِّي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْيَةً من كُرَبِ يْومِ القيامَةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدنْيا والآخِرَةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُنْيَا والآخِرَة، واللهُ في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كانَ الْعَبْدُ في عَونِ أخيهِ، ومَنْ سلكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ له بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، ويَتَدارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عليهمُ السَّكيِنَةُ، وغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ، وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه، وَمَنْ بَطَّأ بِه عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ ) صحيح مسلم.

مفردات الحديث:

- نَفَّسَ: أي خفف أو أزال ما في نفسه من أثرها، ونفس من التنفيس وهو أن يخفف عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق وهو إرخاؤه حتى يأخذ نفساً. 

وفرج من التفريج، وهو أبلغ من التنفس، وهو أن يزيل عنه أثر الكربة بحيث يزول همه وغمه.

- كُرْبةً: أي الشدة العظيمة.

- يَسَّرَ على مُعْسِرٍ: المعسر من أثقلته الديون، وعجز عن وفائها، والتيسير عليه مساعدته على إبراء ذمته من تلك الديون.

- يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ: أموره وشؤونه.

ستر مسلماً: بأن رآه على فعل قبيح شرعاً فلم يظهر أمره للناس.

- عَوْنِ الْعَبْدِ: إعانته، وتسديده لقضاء شؤونه النافعة.

- مَا كانَ الْعَبْدُ أي: مدة دوام كونه كذلك.

- وذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه: أي باهى بهم ملائكة السماء، وأثنى عليهم، وقبل عملهم، ورفع شأنهم.

بَطَّأ بِه عَمَلُهُ:  كان عمله الصالح ناقصاً، وقليلاً، فقصر عن رتبة الكمال.

لمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ: لا يعلي من شأنه شرف النسب، ولا تبلغه وجاهة الآباء ما فاته وقصر عنه من المنازل العالية التي يبلغها أصحاب الأعمال الكاملة عند الله عز وجل.

أهمية الحديث:

قال النووي – رحمه الله تعالى – في شرح مسلم: (وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم، والقواعد، والآداب)

 

المعنى العام للحديث:

إن أفراد مجتمع الإيمان والإسلام أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين، وتنبعث فيه أحاسيسهم، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم: يُسر لما يحظون به من فرح وسرور وبهجة، وما يتمتعون به من أنس وصحة وسعادة، ويتألم لما ينالهم من أذى، وما يُصيبهم من مرض، وما يقع بهم من فاقة وفقر، وضيق عيش وكرب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم؛ مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر، والحمى) متفق عليه.

- اشتكى: مرض، تداعى: دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة فيما حصل.

 - سائر: باقي.

 - الحمى: الألم وما يُصاحبه من ارتفاع حرارة الجسم ونحو ذلك، ومن أهمِّ ما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم أنْ يسارع في تفريج كربه، وإزالة ما يقع فيه من هم أو غم.

شرح الحديث:

من نفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة أي: أزالها، وخففها عنه، مأخوذ من  تنفيس خناق الثوب وإرخاؤه، حتى يأخذ نفساً، والتفريج أعظم من ذلك وهو أن يزيل كربه، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه، والكربة: هي الشِّدَّةُ العظيمة التي تُوقعُ صاحبَها في الكرَب، وتنفيسُها أن يُخفَّفَ عنه منها، والتفريج أعظمُ من ذلك وهو أن يُزيلَ عنه الكُربةَ، فتنفرج عنه كربتُه، ويزوله همُّه وغمُّه، فجزاءُ التَّنفيسِ التَّنفيسُ، وجزاءُ التَّفريجِ التفريجُ.

وكرب الدنيا عديدة، وطرق تنفيسها متنوعة: ومن ذلك:

1- نصرته وتخليصه من الظلم: فمن شأن المسلم أن لا يوقع ظلماً على أخيه المسلم، ولكن هذا لا يكفيه لنيل رضا الله عز وجل إذا لم يسعى جاهداً في تخليصه أيضاً مما يقع فيه من ظلم غيره قال عليه الصلاة والسلام: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه) متفق عليه.

 أي: لا يتركه للظلم، ولا يترك نصرته كما قال صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره) متفق عليه.

2- تخليصه من الأسر: إذا وقع المسلم أسيراً في قبضة العدو كان على المسلمين أن يسارعوا في تخليصه من الأيدي الآثمة التي قد تسعى في فتنته عن دينه فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني) البخاري.

3- إقراضه المال إن احتاج إلى المال: فقد يقع المسلم في ضائقة مالية فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام، وشراب، ومسكن، وعلاج ونحو ذلك، فينبغي على المسلمين أن يسارعوا لمعونته، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً بدل أن يتخذوا عوزه وسيلة لتثمير أموالهم وزيادتها كما هو الحال في مجتمعات الربا، والاستغلال قال تعالى -: ]مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[  البقرة:245، وقال ﷺصلى الله عليه وسلم: (من أقرض مسلماً درهماً مرتين كان له مثل أجر أحدهما لو تصدَّقَ به) رواه ابن حبان.

4- كرب يوم القيامة والخلاص منها: ما أكثر كربات يوم القيامة، وما أشد أهوالها، وأفظع مخاوفها، وما أحوج المسلم لأن يجد لنفسه عملاً صالحاً في ذلك اليوم يخلصه من شيء منها، ويكشف له متنفساً للنجاة، وينير طريق الفوز بالجنة أمامه، قال صلى الله عليه وسلم -: (يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمُ  الدَّاعِي، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ، إِلَى مَا بَلَغَكُمْ؟ أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ) البخاري.

5- التيسير على المعسر:

قوله صلى الله عليه وسلم: ومن يسَّر على مُعسِرٍ يسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة يدل هذا على أن الإعسار قد يحصُل في الآخرة، وقد وصف الله يومَ القيامة بأنه يومٌ عسير، وأنَّه على الكافرين غيرُ يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم قال الله  تعالى -: ]وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً[  الفرقان: 26، والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين:

1- إمّا بإنظاره إلى الميسرة: أي ينظر الدائنُ مدينه إلى وقت يملك به ما يفي دينه، ويصبح ذا يسار، وذلك واجب قال الله – تعالى -: ]وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ البقرة:280.

2- أنْ يُبرئ الدائنُ مدينَهُ من الدَّينِ: أو يضع جزءاً منه، أو يعطيه غير الدائن ما يزول به إعساره من تراكم دين أو نفقة.

 

6- ستر المسلم:

قوله صلى الله عليه وسلم: ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة لقد كثرت النصوص التي تحث على ستر المسلم، وتحذر من تتبع عوراته وزلاته ليفضح بين الناس فعن ابن عباس رضي الله عنهما،  عن النبي صلى الله عليه وسلم: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ» رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قوماً لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس عيوباً، وأدركت قوماً كانت لهم عيوب، فكفُّوا عن عيوب الناس فنُسيت عيوبهم، وشاهد هذا حديث أبي بَرْزَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (يا معشرَ من آمن بلسانه ولم يدخُلِ الإيمانُ في قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعُوا عوراتهم، فإنَّه من اتَّبع عوراتهم تتَّبع الله عورته، ومن تتَّبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود، وأحمد، وقال شعيب الأرناؤوط  الحديث صحيح.

بل إن تتبع عورات المسلمين علامة من علامات النفاق، ودليل على أن الإيمان لم يستقر في قلب ذلك الإنسان، لأن الأصل في المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا رأى عيباً أو تقصيراً في أخيه المسلم أن يدعوا له بالاستقامة والصلاح، وأن ينصحه في السر فهذا أحرى لقبول النصيحة كما قال الشَّافعيُّ:

تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في اِنفِرادي

وَجَنِّبني النَصيحَةَ في الجَماعَه

فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ

مِنَ التَوبيخِ لا أَرضى اِستِماعَه

 

لا أن يفرح ويسعد بزلة أخيه وسقطاته، ويجعل منها حديثاً يتلذذ به في المجالس، فيفضح أخاه بذلك.

فالمسلم إذا اطلع على زلة أخيه المسلم فهل يسترها عليه أم يعلنها؟ فإن هذا يختلف باختلاف أعمال الناس، والناس في هذا على ضربين:

1- من كان مستوراً لا يُعرف بشيءٍ من المعاصي: فإذا وقعت منه هفوة أو زلة؛ فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمةٌ، وإشاعة للفاحشة، والله – تعالى – يقول: ]إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ النور:19، قال العلماء : المراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما فرط منه، أو اتهم بهم مما هو بريء منه، وقال بعضهم: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، والمراد بالعصاة هنا العصاة المستورن الذين لم يعلنوا بمعاصيهم، وعلى هذا تحتمل النصوص الواردة في الحث على ستر المسلم.

2- من كان مشتهراً بالمعصية، مستعلناً بها بين الناس: أي لا يبالي بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه؛ فهذا فاجر مجاهر بفسقه، فلا غيبة له، بل يندب كشف حاله للناس، وربما يجب حتى يتوقوه، ويحذروا شره، وإن اشتد فسقه ولم يرتدع من الناس؛ وجب رفع حاله إلى ولي الأمر حتى يؤدبه بما يترتب على فسقه من عقوبة شرعية؛ لأن الستر عليه يجعله وأمثاله يطمعون في مزيد من المخالفة، فيعيثون في الأرض فساداً، ويجرون على الأمة الشر المستطير.

 

7- التعاون بين المسلمين في كل وجوه الخير:

قوله صلى الله عليه وسلم: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه إن المجتمع لن يكون سوياً قوياً، ولن يكون متماسكاً؛ إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعى كل منهم في حاجة غيره بنفسه، وماله، وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وهذا ما دعا إليه الإسلام، وأمر به القرآن، وجعلته السنة المطهرة عنواناً لمجتمع الإيمان قال  تعالى -: ]وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ المائدة: 2، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) متفق عليه. 

 

8- طريق الجنة:

قوله صلى الله عليه وسلم: ومن سلك طريقاً يلتمسُ فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة: وقد يكون المراد السلوك الحقيقي للطريق وهو المشي بما هيأ الله لنا من وسائل إلى مجالس العلماء، وقد يكون سلوك الطريق المعنوي المؤدي لحصولِ العلم مثل حفظه، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهم له ونحو ذلك من الطرق، أما قوله صلى الله عليه وسلم: سهل الله به طريقاً إلى الجنة قد يراد به تسهيل حصوله على العلم الذي هو طريق الجنة، أو يسهل له – إذا ابتغى به وجه الله – الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون العلم سبباً لهدايته ولدخوله الجنة، أو يسهل الله له طريق الجنة يوم القيامة من اجتياز الصراط، وما بعده من الأهوال، وما قبله، والله أعلم.

فالعلم النافع هو طريق معرفة الله عز وجل، والوصول إلى رضوانه والفوز بقربه قال – تعالى -: ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[  فاطر: 28.

 

9- ذكر الله عز وجلقوله صلى الله عليه وسلم: (وما جلسَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهمُ السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) 

 إن ذكر الله عز وجل من أعظم العبادات قال تعالى -: ]اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [ العنكبوت:45، وذلك أن ذكر الله عز وجل يحمل الإنسان على التزام شرعه في كل شأن من شؤونه، ويشعره برقابة الله – تعالى – عليه، فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه، ويصلح حاله مع الله تعالى، ومع الخلق، ولذا أمر المسلم بذكر الله – تبارك وتعالى – في كل أحيانه وأحواله قال تعالى -: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً[  الأحزاب:41. أي صباحاً ومساءً، والمراد: في كل الأوقات، قال – سبحانه -: ]فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ النساء:103، وخير ما يذكر به الله عز وجل كلامه المنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم لما فيه – إلى جانب الذكر – من بيان لشرع الله – تعالى -، وما يجب على المسلم التزامه، وما ينبغي عليه اجتنابه، فيأخذ منه المنهج الذي يقوم عليه سلوكه، ويأخذ به إلى الفوز والسعادة، وخير الأماكن لذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن، وتعلُّم العلم؛ (هي المساجد بيوت الله عز وجل ) يعمرها في أرضه المؤمنون، وعمارتها الحقيقية إنما تكون بالعلم، والذكر؛ إلى جانب العبادة من صلاة، واعتكاف ونحوها.

لقد كان فضل الله عز وجل عظيماً على أولئك الذين جلسوا يتلون كتابه، إذ حباهم بمكرمات أربع كل منها دليل على علو شأنهم عنده، ورفعة منزلتهم، وكفيل لهم برضوان الله – تبارك وتعالى -، ومغفرته، وقبوله.

1- قوله صلى الله عليه وسلم: نزلت عليهم السكينة: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت). متفق عليه. 

وبهذه السكينة يطمئن القلب، وتهدأ النفس، وينشرح الصدر، ويستقر البال والفكر قال – تعالى-: ] الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ الرعد:28.

2- قوله: غشيتهم الرحمة: عن سلمان رضي الله عنه: أنه كان في عصابة يذكرون الله – تعالى -، فمرَّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها) رواه الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذهبي. فهذه الرحمة هي أعظم ما يحظى به المؤمن، وخير ما يناله المسلم كثمرة لجهده في هذه الحياة قال – تعالى -: ] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون[  يونس:58، فطوبى لهؤلاء الذين نالتهم الرحمة.

3- قوله صلى الله عليه وسلم: (حفتهم الملائكة)، عن أسيد بن حضير رضي الله عنه، قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم) رواه مسلم.

4- قوله صلى الله عليه وسلم: (ذكرهم الله فيمن عنده) قال تعالى-: ]فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [ البقرة:152، فإذا ذكر العبد المؤمن ربه بتلاوة كتابه، وسماع آياته؛ قابله الله عز وجل على فعله من جنسه، فذكره – سبحانه – في عليائه، ففي ذكر الله – تعالى – لعبده الرفعة، والمغفرة، والرحمة، والقبول، والرضوان. 

 

10- الجزاء على الأعمال لا على الأنساب:

قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) قال النووي رحمه الله: “من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي ألا يتكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل" شرح مسلم كتاب الذكر. قال تعالى -: ]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا[  الأنعام:132، وقال تعالى -: ]فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [ المؤمنون:101.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: ]وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ[  الشعراء:214 ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» رواه البخاري، فمنزلة الإنسان يوم القيامة على قدر إيمانه، وعمله، سواء أكان ذا نسب رفيع أو وضيع.

 الفوائد من الحديث:

1- أن الجزاء عند الله – تعالى – من جنس العمل، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، والعون بالعون، والستر بالستر، والتيسير بالتيسير.

2- الترغيب في الإحسان إلى العباد.

3- المسارعة للتوبة من الذنوب والخطايا.

4- الاهتمام بكتاب الله – تعالى-.

5- فضل الجلوس في بيوت الله لمدارسة العلم.

6- طلب العون من الله – تعالى- والتيسير.

7- ملازمة تلاوة القرآن والاجتماع لذلك.

8- الحذر من تطرق الرياء في طلب العلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين 

كتبه د/

عبدالله بن محمد السدحان

أبومحمد